الأديب إبراهيم عمر السمان يكتب : فراغ يكفى للإختباء
جريدة جماهيرقصتي القصيرة، الحاصلة على المركز الثالث عربيًا بمسابقة مهرجان همسة الدولي للآداب والفنون (دورة الفنانة نبيلة عبيد 2023)
_فراغٌ يكفي للاختباء
_قصة قصيرة
حطّت الطائرة في مَطار الأقصرِ سريعًا، سريعًا جدًا!
هذه رحلة غريبة، أغرب رحلةٍ على الإطلاق
لطالما كان الذهاب أسرع من الوصول
ولكن الآن تبدّلت الأدوار، ربما هو الوصول الأخير
كنت أظن أنني سأعاني من الانتظار وتمضي عليَّ الدقائق ساعات لكنني لو سُئلت الآن
كم لبثتَ في المجيء لقلتُ ثانية أو بضع ثوان!
آه..مَضى وقتٌ طويل منذ قدوم جسدي إلى هُنا..
كان هذا مُجرد وقت من العمر، ومضى..
كحالِ أي مغترب عن أرضه وعشيرته
قدّمتُ أصعب ما قد يقدِّمه المرء في سبيل التأقلم مع طبيعة الحال في الغُربة، قدّمتُ التنازل.
كنت اتعجّب من نفسي كثيرًا من كم التناقض الذي بات يسكنني، أراني ساعة ضحّاك وساعة كبومة فُقئت عيناها وصارت تتحسس أيّ جذع شجرة لكي تحط عليه أحزانها وكآبتها.
لا شيء يسقي بالصبر قلبي في تلك البلاد الغريبة سوا اللامبالاة والسخرية، أسخرُ من كل شيء ولا أبالي، أسخرُ من مُقاوِل الأنفار وضابط أمن البوابات، من العمّال السود والبيض والهنود حتى نفسي لم تسلم منّي.
كيف لشخص مثلي أن يقضي يومه من قبل آذان الفجر في العمل إلى غروب تلك الشمس سليلةُ جهنم، من أجل ورقةٍ نقديَّة تساوي العديد والعديد من عُملةِ بلده المصكوكة، بدون سخُرية وضحك وبكاء وعُزلة داخل العزلة!
وأقول بعدها هوِّن عليكَ يا غريب ..
وبعد انقضاء يوم العمل، واستلام اليومية
اذهبُ إلى المطعم المجاوِر لسكني ومن بعده إلى قهوة العُمّال، أعلم أنني هكذا لا أدّخر المال
لا بأس فأنا أعمل من أجل أن أعيش
لا أعيش من أجل أن أعمل!
ياسيّدي، أعتقد أن الدنيا لن تقف على نصف دجاجة يأكلها الغريب في عشاءه!
أسأل نفسي نفس السؤال الذي تسألني إياه أمي:
كيف انقضى يومك يابُني؟
وأجيب لا أعلم!
منذ سنين وانا أبحث عن الفراغ بكل همّتي
الفراغ المُريح، أُسرع إليه ولكنه أسرع، أفتّش عنه ولكنه يجيد الاختباء، لم أجده في وقت استراحتي في يوم العمل الطويل ولا بعد انتهاءه
حتى في يوم الجمعه لا أجده، أقوم بغسل ملابسي وأظن أنني قد انتهيت، ها هو الفراغ
انا أراه، فيصيبني وابلٌ من الإلهاءات..
أُهاتف أمي التي لا تملُّ ولا تشبع من الحديث معي، فأنام، وهاتفي فوق صدري يتحسَّسُ ضربات قلبي المُنهك.
فأرى في المنام ذلك اليوم الذي انقضىٰ في هيئة طفلٍ لاجيء مسكين، هجَّروه من أرضه يصرخ
ياغريب: شُد يدي ياغريب...
فأفيق والقمر يضرب صافرات الرحيل قبل الفجر ليبدأ يوم جديد.
عشر سنواتٍ قضيتها في تلك البلاد الغريبة البعيدة على ثلاث زيارات، وحيد رغم الجَمعة، بداخلي كلمات كثيرة سجينة خلف قضبان الصمت، أحتاج أن احررها وأبكي.
أو ربما يحتاج الغريب لأجازةٍ مؤقتةٍ أو دائمة.
الأوراق، تخليصها واختامها من أشد أنواع التعذيب الخفيّة، لابأس مما عانيته من أجل الحصول على أجازة، غدًا أصل إلى الديار وأنسى...
هذا المطار الذي كنت فيه قبل بضع سنين، في بداية التجربة
بين ابتسامة الطموح وصمت المضطرّ ودمعة المُفارق، ها أنا فيه الآن ..
الآن بعد أن شاخ طموحي ومارستُ البكاء مرارًا من عين القلب، ومن ثَم أتقنتُ اللامبالاة والسخرية
الآن..أنظرُ إلى أرض الجنوب، الأرض العُليا وأنزلُ رويدًا برفقة صديقي القديم "باسم"
"باسم ميلاد" رفيق الخدمة العسكرية وصديق الغربة، الذي دائمًا ماكنت أنعته بالبكَّاء، كان حنونًا جدًا وحزينًا جدًا
الآن يقف إلى جانبي على حالهِ القديم، ربما يبكي بكاء الفرح من فرطِ اشتياقه لذلك البلد الذي غادرناه سويًا، أو ربما في نفسه شيء!
غادرتُ ركن الطائرة، هذا المكان الذي يعلوه مُبرّد كهربائي يجعله بارد كثلاجة الموتى!
ربما هذه مكافأة لي على ماقضيته من عمري تحت سيوف الشمس ونبالها التي لطالما قتلَت مساماتي وأحرَقت طاقتي في حرب يوميّات العمل.
وعجبت كثيرًا من الراحة في الطائرة!
كأن طاقم الطائرة يريدون تكريم جسدي المُنهك!
بدأتُ أتحسس غرابة الأمر في ساحة الوصول
حينما لم يبتسم لي الموظف الذي يجُر الحقائب، ابتسامة طلب المكافأة أو كما نقول البقشيش!
خرجت إلى البراح الربّاني من بعد غُرفٍ وأوراق وأختام، الزروع على يميني وعلى يساري وسماء القرية رأيتها من خلف الغيومِ صافية واسعة، هذه هي المرة الأولى التي لم أقل فيها عند المجيء: (واللهْ سمانا أحلى من سما الغربة ياباسم)
توحّدت السموات في رؤيتي
وعلى الطريق رأيتُ نساء قريتي يتوشحون بالأسوَد، حين اقتربت وكأن اليومَ عيد الزيّ الموحّد أو كأنهم يقولون الأسوَد يليق بنا.
وأصدقائي، حينما رأيتهم مجتمعون، يقفون صفّين ليشكلوا ممرٍ شرفيّ لاستقبال ذلك الغريب تذكّرتُ أول مرة سافرتُ فيها، كانوا بنفس هذا الشكل
كسربِ حمام جبليّ يطوف فوق حقول القمح في وقت الحصاد.
أتوا لوداعي جميعًا في المرةِ الأولى وكذلك حين عودتي بعد عامين ونصفهم حين ذهبت ونصف نصفهم حين عُدت إلى أن سافرت في آخر مرة لم أجِد أحدًا، فقد سحبتهم ندَّاهةُ الحياة وتاهوا في الأرض مابين قضاء الخدمةِ العسكرية وسجن الالتزامات، والعمل في السياحة والاغتراب في البُلدان مثلي، وها هم الآن عادوا للجَمعه ولاستقبال جسدي الآدميّ
وأقاربي لأول مرة يتفقون على شيء، بعد أن فرَّقتهم مرايا الميراث فأصبح كلٌّ ينظرُ في مرآته ولا يرى إلا نفسه ومعها الحق والأحقيَّة.
ونساؤهم مجتمعاتٌ أيضًا بعد اتهمن بعضهن بالسحرِ والأعمال، بعد أن اختصموا على كلمة الحياة، اتفقوا على الصمت والبكاء والعِظَة
الجميع هُنا، يتدافعون لحَملي وكأني مُهاجم بمنتخب الدولة أحرز هدفًا في مرمى الخصم في الثوان الأخيرة!
ورودٌ على وجهي ودموع على وجوههم
إلى أن وضعوا جسدي أمامَ الإمامِ في المسجد
وهنا قُلتُ يا رفاق هوِّن عليكم، لست بحاجة لشيء بعد الصلاة، إلا لنجارٍ يفتح ذلك الصندوق الذي أرقدُ فيه
وتجيء أمي لتقبيل جبهتي
للمرةِ الأخيرة !